الأحد، 31 أغسطس 2014

تأملات من حياة النبي سليمان في القران(5)


قال تعالى " قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ (35) النمل
لا أدرى لماذا ناقش بعض العلماء  قضية ولاية المرأة عند هذه الآية ليختلفوا في جواز ذلك من عدمه  والآيات لا تعيب هنا ولاية هذه المرأة   لا نصا ولا فحوى بل العكس .
اولا:- أما أن الآيات لم تعب ولاية المرأة في هذا الموضع من القران  فان خطاب الهدهد اني وجدت امراة تملكهم لم يعب على القوم توليهم امرأة   بل عاب عليهم سجودهم للشمس من دون الله بقوله وزين لهم الشيطان اعمالهم  أي أن اعتراضه على سجودهم للشمس من دون الله وليس على  قبولهم ولاية امرأة  وماكان القران وهو الحق الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ماكان ليورد امرا باطلا معيبا  دون ان يعقب عليه .
ثانيا:- فضلا عن ذلك فما اوردته الايات بشأن  هذه المراة  التي نصبت ملكة على قوم  يدل على رجاحة عقلها وحكمتها وحسن تدببر للامور ومشاورتها قومها في القضايا العامة وهو مالم يفعله غيرها من الملوك الذكور اذ "قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ". وهو ماكان سببا في سلامتها وسلامتهم في المقابل  اخبرنا القران عن فرعون وكان ذكرا نصب على قومه ملكا فلم يقنع الا بالالوهية  ولم يشاورهم في شيء بل الصواب مايراه هو فقط   " وَقَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا  أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)  وهو ماكان سببا في هلاكهم " فاوردهم النار وبئس الورد المورود"
ثالثا:- غير اننا نريد توسيع دائرة التأمل لنقف عند  الملوك الذين نادوا بهذا النداء "يا ايها الملا " ا وردت هذه العبارة على السنة ثلاثة من الملوك عرضهم القران " الأولى هذه الملكة في سبأ في قولها " يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ "والثانية موضع سورة يوسف عندما قال  الملك "يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)"يوسف  وكان قد رأى رؤيا اقلقته واحب ان يعبرها له المعبرون والثالثة  موضع سورة غافر "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي " 38 غافر الملا في اللغة هم اشراف وعلية القوم الذين يرجع اليهم الامر
فاما الموضوع الاول فهو المرأة  الملكة عندما تعرضت لقضية عامة عرضتها على الشورى ولجأت الي علية القوم تستشيرهم وتتعهد انها لن تبرم امرا دونهم فتقول لهم ماكنت قاطعة امرا حتي تشهدون اما موضع يوسف فالملك قد راى رؤيا مقلقة  فلجأ الى الملأ اي علية القوم واشرافهم  ليعبروها لكن المجتمع وقتها  كان في حالة من التدهور والفساد والتفكك والانحطاط حتى ان من يحلم بحمل الخبز لتاكل الطير منه يقتل ومن يحلم بعصر الخمر للملك يفرج عنه   والحديث الذي يشغل بال نسوة هذا المجتمع ان امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ولذلك فان  علية القوم واشرافهم " الملأ " قابلوا هذا القلق الذي يتهدد مجتمعهم بهذه اللامبالاة والاستهتار " اضغاث احلام ومانحن بتأويل الاحلام بعالمين " ولوكان الملك سار ورائهم ما خرج من الكارثة التي حلت ببلده  
اما فرعون فقد استخف بقومه فأطاعوه  ومن ثم فعلية القوم واشرافهم لاينبغي لهم ان يروا الا مايراه الفرعون فكان العاقبة أن أوردهم النار وبئس الورد المورود  
 ان الايات عرضت ان  ملكة سبأ برجاحة عقلها وحكمتها  قادت قومها الى النجاة في الدنيا والاخرة وقالت رب اني ظلمت نفسي واسلمت مع سليمان لله رب العالمين وعذرها القران فيما مضى من سالف عهدها بقوله " وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّـهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴿٤٣﴾النمل
وقد ظهر رجاحة عقلها من تقييمها لكتاب سليمان اذ "قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴿٢٩ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ﴿٣٠ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴿٣١﴾النمل فقد وصفت الكتاب بالكريم قبل ان تفكر فيما تفعل بشأنه رغم ان ما يشتمل عليه الكتاب من المعاني لم يكن محمودا عندها ؛ لأنها قالتقَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ " وقد اختلف أهل العلم في سبب وصفها الكتاب بالكريم ، فقال بعضهم : وصفته بذلك لأنه كان مختوما وقال آخرون : وصفته بذلك لأنه كان من ملك فوصفته بالكرم لكرم صاحبه .
وانا أميل الى ان وصفها الكتاب بالكريم  لانه بدأ ببسم الله الرحمن الرحيم  فالسياق يخدم هذا المعنى كما ان هذ الافتتاح لم يتعوده الملوك والسلاطين اذ تعودا ان يبدأوا كتبهم باسمهم فيقولون باسم فلان ملك كذا او باسم صاحب الجلالة فلان بن فلان اما ان يكون ملك ولايبدأ الاعمال باسمه بل باسم الله معناه انه ملك عبد لله  وانه يقوم على هذا  الملك عبودية لله  وليس لشهواته  فمملكة سليمان ليست مملكة لإرضاء نزوات وشهوات اشخاص بل مملكة ربانية تعبد الناس لله رب العالمين وهومادعاها ان تتاكد من ذلك. ولنرى كيف كان تصرف الملكة ورد فعل سليمان في الحلقة السادسة



السبت، 30 أغسطس 2014

الواجب الكفائي واثره في التنمية



الواجب في اصطلاح الأصوليين هو: ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتما لازما بحيث يعاقب تاركه ويثاب فاعله . والواجب بالنظر إلى القائم به ينقسم إلى قسمين: واجب عيني و واجب كفائي والواجب الكفائي: هو المطلوب فعله من جموع المكلفين بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين أما الواجب العيني: فهو المطلوب من كل مكلف علي حده.
واضح من هذا أن المطلوب في الواجب العيني هو أداء المكلف بحيث لا يغني أداء مكلف عن أداء غيره أما المطلوب في الواجب الكفائي فهو الفعل نفسه بحيث إذا تحقق الفعل من بعض المكلفين اغني عن قيام الآخرين به مرة أخرى. وفي هذا يقول الإمام القرافي في الفرق الثالث عشر من كتابه الفروق (الأفعال قسمان منها ما تكرر مصلحته بتكرره ومنها ما لا تكرر مصلحته بتكرره فالقسم الأول شرعه صاحب الشرع علي الأعيان تكثيرا للمصلحه بتكرر ذلك الفعل كصلاة الظهر فان مصلحتها الخضوع لله تعالي وتعظيمه ومنجاته والتذلل له والمثول بين يديه والتفهم لخطابه والتأدب بآدابه وهذه المصالح تتكرر كلما كررت الصلاة والقسم الثاني كإنقاذ الغريق إذا شاله إنسان فالنازل بعد ذلك في البحر لا يحصل شيئا من المصلحة فجعله صاحب الشرع علي الكفاية نفيا للعبث وكذلك كسوة العريان واطعام الجيعان ونحوهما) أ.هـ
المخاطب بواجب الكفاية

وقد تناول الأصوليون الحديث عن تحديد المخاطب بواجب الكفاية وقد انحصرت الآراء عن المخاطب بالواجب الكفائى بين الأمة كلها أو فئة معينة هي القادرة عليه أو فئة معينة عند الله غير معينة عند الناس لا تظهر إلا عند القيام بالواجب وسبب الخلاف هو طبيعة الواجب الكفائى إذ انه يسقط عن الأمة بمجرد قيام فئة منها به فهل الفئة التي قامت به هي التي كانت مخاطبه به وهذا قول لبعض أهل العلم كما انه من جهة أخرى تتحمل الأمة كلها الإثم عند عدم قيام أحد به ولا شك أنها لا تتحمل الإثم إلا إذا كانت مخاطبه به والرأي الراجح الذي نميل إليه ان الأمة كلها مخاطبة بجميع أفرادها بواجبات الكفاية وتظل ذمة كل فرد فيها مشغولة به حتى يتحقق هذا الواجب في عالم الواقع وهو من هذا الجانب يتفق مع الواجب العيني غير انه يفترق بسقوطه عن جميع الأفراد عند قيام البعض به إذ لم يعد هناك مصلحة للقيام به مرة أخرى كما ذكر الإمام القرافي وبهذا تسهم طاقات الأمة في القيام بهذا الواجب وتتفاعل معه خاصة وأننا سنري أن واجبات الكفاية تتعلق بالمصالح العامة بالمجتمع .
وقد بين الإمام الشاطبي ان مواهب الناس مختلفة وقدراتهم في الأمور متباينة ومتفاوتة فهذا قد تهيئ للعلم وهذا للإدراة والرئاسة وذلك للزراعة والصناعة وهذا للصراع والواجب أن يربي كل امرئ علي ما تهيئ له حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه وبذلك يتربي لكل فعل هو فرض كفاية قوم لانه طريق مشترك بحيث إذا وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة نحتاج إليها في الجملة وان كانت به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية وبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة وبذلك يستنهض واجب الكفاية همم وطاقات الأفراد جميعا حتي وان قلت فإنها إن تجمعت من العديد كثرت وتسهم بمجهود ما في تنمية الأمة وازدهارها بحيث لا تنكفئ فئة معينة علي نفسها فإذا فشلت جنت الأمة ثمار فشلها وقد يكون هناك من هو اقدر منهم علي القيام بهذا الواجب .

الواجب الكفائي علي القادر وغير القادر:

وإذا كنا قد انتهينا إلى أن الأمة كلها مكلفة بواجب االكفاية فانه جدير بالذكر انه قبل تحقق الواجب الكفائي فان جميع الأفراد مكلفين به ومخاطبون بالقيام به القادر وغير القادر وفي هذا يفترق الواجب الكفائي عن الواجب العيني إذ الواجب العيني يسقط عن غير القادر أما الكفائي فلا. يقول الإمام الشاطبي: يصح أن يقال انه واجب علي الجميع علي وجه التجوز لأن القيام بهذا الفرض قيام بمصلحه عامة فهم مطالبون بسدها علي الجملة فبعضهم قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلا لها والباقون وان لم يقدروا عليها فهم قادرون علي إقامة القادرين مثل مسألة الولاية فمن قدر عليها فمطلوب منه إقامتها ومن لم يقدر عليها فهم قادرون علي إقامة القادرين عليها ويضرب الدكتور مدكور لذلك مثلا بما يقع من إجبار الأفراد علي اختيار ممثلي الشعب والحاكم فان إقامة القادرين علي تمثيل الشعب لا تكون إلا نتيجة الانتخابات ويوضح الدكتور عبد الكريم زيدان ذلك فيقول: وعلي هذا التصور للواجب وجب علي الأمة مراقبة الحكومة وحملها علي القيام بالواجبات الكفائية أو تهيئة الأسباب اللازمة لأدائها لان الحكومة نائبة عن الأمة في تحقيق المصالح العامة وقادرة علي القيام بأعباء الفروض الكفائية فإذا قصرت في ذلك أثمت الأمة كلها بما في ذلك السلطة التنفيذية. الأمة لعدم حملها الحكومة علي تهيئة الأسباب التي تقام بها الفروض الكفائية والحكومة لعدم قيامها بالواجب الكفائي مع القدرة عليه.

نحو فقه صحيح للواجب الكفائي
:
محاولة منا في تصحيح ما لحق بالأذهان من تشويش حول الواجب الكفائي يهمنا في هذا المجال إبراز المفاهيم التالية:

أولا : مزية القيام بفرض الكفاية علي فرض العين
 .
لا نتناول في هذه النقطة موضوع الترجيح بين فرض العين وفرض الكفاية لان الترجيح يفترض التعارض ولا شك أنه إذا تعارض فرض العين مع فرض الكفاية قدم فرض العين ولا يعني هذا بالضرورة فضل أو مزية لفرض العين علي فرض الكفاية بل قدم فرض العين في الأداء بسبب تعين المكلف القائم به وتقديم فرض العين علي فرض الكفاية في الأداء عند التعارض جعل من المتبادر إلى الذهن أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية وهذا غير صحيح فجمهور العلماء علي أن لواجب الكفاية مزية علي واجب العين إذ أن واجب الكفاية جمع بين فضلين هما القيام بالواجب و إسقاط الإثم عن الأمة يقول الإمام الزركشي قال في الروضة: القيام بفرض الكفاية مزية علي القيام بفرض العين من حيث أنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين وقال الإمام الغياثي: أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين لانه لو ترك المتعين أختص هو بالإثم ولو ترك الجميع فرض الكفاية أثموا جميعا ولو فعله اسقط الحرج عن الجميع وقد أورد السيوطي المسألة وذكر أن الإمام الحرمين و والده والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني يرون ان فرض الكفاية افضل من فرض العين وحكاه أبو علي السنجي عن أهل التحقيق وختم كلامه بان المتبادر إلى الأذهان خلافه. وفعلا المتبادر إلى الأذهان غير ذلك ولعل الذي خلق ذلك الشعور بضعف لزوم واجب الكفاية كثرة المكلفين به وهذا خطأ إذ أن واجب الكفاية قبل القيام به تظل ذمة كل مكلف مشغولة به ومحاسبه عليه ولا يسقط إلا إذا قام به البعض أما قبل ذلك فلا

ثانيا: جوانب الواجب الكفائي
.
ومن السياسات غير الرشيدة في دراسة أصول الفقه هو تناول أمثلة واحدة عند تناول الواجب الكفائي فيضرب المثل به دائما بصلاة الجنازة وغسل الميت و لا شك أن كل عصر كان يضرب الأمثلة علي الواجب الكفائي بما يراه شائعا عنده فالواجب الكفائي كما رأينا يتمثل بالقيام بكل ما من شأنه نهضة الأمة وتقدمها إذ هو متعلق بالمصلحة العامة كما ذكر الشاطبي قبل ذلك كما يشمل الواجب الكفائي أمور الدنيا وأعمال الآخرة وهذا ما ذهب إليه جمهور الأصوليين وقد خالفهم في ذلك الإمام الجويني والغزالي فقد قصرا واجب الكفاية علي أعمال الآخرة فقط بحجة أن حث الطبع يغني عن حث الشرع والباقون يرون ان واجب الكفاية عندهم يشمل أمور الدنيا التي تحتاجها الأمة مثل الحرف والصناعات المختلفة وقاعدة حث الطبع التي تعلل بها الغزالي والجويني لا تغني عن حث الشرع بإطلاق إذ انه في بعض الأحيان يتخاذل الطبع عن القيام بما من شأنه إصلاح النفس والمجتمع فيتدخل الشرع للإلزام بالقيام بذلك وهناك أمثلة عديدة في تحرك الحكم من المباح إلى الوجوب في الأمور الدنيوية التي تعتمد علي حث الطبع فالشرع لا يأمر الإنسان بالأكل أو الشرب اعتماداً علي حث الطبع لهما لكن إن عزف الإنسان عنهما وأصبحت نفسه معرضه للهلاك وجب عليه الأكل والشرب وتحرك الحكم في حقه من الإباحة إلى الوجوب وهكذا يجب أن يتحرك الحكم إلى الوجوب في الأمور الدنيوية التي يكون عليها مدار الأمة ومصلحتها ودرأ المفاسد عنها
.
ثالثا: أمثلة معاصرة للواجبات الكفائية .
أ: من الأمور الدينية

1-دفع الشبهات التي تثيرها المذاهب الفكرية المعاصرة وتعلم أسس الحوار والمحاجة والتجديد في وسائل ذلك وفقا لمنطق العصر وعلومه.
2-الاشتغال بعلوم الشرع من منطلق تطبقها علي حياتنا المعاصرة باستخدام متخلق الوسائل في أصول القران والحديث وعلومهما والعلوم الشرعية إلى الناس من قنوات فضائية ومواقع علي الشبكة العنكبوتية ومعاجم وفهارس بلغات الأمم المختلفة.
3-
إقامة مؤسسات للاجتهاد الجماعي ومؤسسات إعداد المجتهدين والمفتيين بما يكفي لحاجات الأمة ورفع الجهل عن أبنائها وضبط حركتها علي أصول الشريعة.
4-
إقامة مؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن أنظمة متخصصة متطورة تكفل تحقيق الوظيفة دون تعسف في الفهم أو إساءة في الممارسة ومع بقاء دور الأفراد قائما بحماية قانونية تنظم قيامهم بهذا الواجب.
ب- ومن الأمور الدنيوية:

1-تحقيق الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات الاقتصادية بدءاً بالضرورات من زراعة وصناعة لمتطلبات الغذاء والملبس والمسكن والصحة والتعليم مما يكفل الاستقلال الاقتصادي للأمة الإسلامية وتيسير الضرورات مجانا لغير القادرين .
2-
إقامة المعاهد التعليمية ومؤسسات البحث العلمي ونظم التدريب الكفيلة بتقدم الأمة في جميع المجالات وتكوين العناصر المتخصصة والمدربة اللازمة لتغطية هذه المجالات ووضع النظم الكفيلة لتعبئة المدخرات والفوائض وتوجيهها للاستثمار في هذه المجالات ووضع الحوافز الربحية والضريبية المعينة علي ذلك.

رابعا:الواجب الكفائي والمندوب الكفائي.

وقد شاع أيضاً أن الواجب حسب القائم به يكون عينياً او كفائياً فقط لكن المندوب أيضا يتعلق بالعيني والكفائي وقد اشتهرت الكفاية في الواجبات دون المندوبات يقول الأمام القرافي أن الكفاية كما يتصوران في الواجبات يتصوران في المندوبات كالآذان والإقامة والتسليم والتشميت وما يفعل بالأموات من المندوبات والتي علي الأعيان من الوتر والفجر وصيام الأيام الفاضلة وصلاة العيدين والطواف في غير النسك والصدقات ولا يترتب علي المندوب الكفائي سقوط الإثم عن الباقين إذ ليس هناك إثم في ترك المندوب لكن يترتب عليه أن يحصل القائم بالمندوب الكفائي مثل أجور المخاطبين به قال العلامة بن ذكري في حاشيته علي البخاري: وقد ذكروا أن الفرض الكفائي كالصلاة علي الجنازة وسنة الكفاية كالآذان والإقامة إذا أراد فاعلها إسقاط الحرج عن حاضري هذا الموضع من المكلفين كانت له أجورهم وان بلغت أعدادهم ما بلغت (نقله كنون علي حواشي عبق واردة في القواعد السنية في الأسرار الفقهية)
 .
خامسا: لا يسقط الواجب الكفائي إلا بتحققه .
وهذه من طبيعية الواجب الكفائي وهي غائبة أيضاً عن الأذهان إذ أن الواجب الكفائي تظل الذمة مشغولة به حتي يقع فعلا فإذا لم يتحقق لحق الإثم جميع الأمة ولا يسقط بتعيين القائم به حتي يقوم به فعلا وذكر بعض الأصوليين انه يسقط إذا غلب علي الظن القيام به يقول الإمام القرافي: يكفي في سقوط المأمور به علي الكفاية ظن الفعل لا وقوعه تحقيقا فإذا غلب علي ظن تلك الطائفة أن تلك فعلت سقط عن تلك وإذا غلب علي ظن كل واحدة منها فعل الأخرى سقط الفعل عنهما

وبعــــــــــــــــد:
يظل فقه الواجب الكفائي مصدراً للتنمية ونهضة الأمة وازدهارها في جميع المجالات إذ لا يتوقف ذلك علي حث الطبع كما رأينا بل يظل واجبا في ذمة جميع الأفراد لا يسقط إلا إذا قامت به فئة أو علي الأقل غلب علي الظن القيام به وفي كلا الأحوال إذا تأكدنا انه لم يقم به أحد يظل واجبا في ذمة جميع الأمة كما تظل الواجبات الكفائية التي تعين لها أفراد عاجزون لم يقوموا بها تستحث الأمة كلها للقيام بها فلو تعين مثلا للإفتاء غير قادرين لم يلبوا حاجات الأمة في هذا الجانب ظلت الأمة بجميع أفرادها مكلفة بذلك حتي يقوم منهم من يكفي حاجة الأمة في هذا المجال وكذلك الدفاع والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الدعوة وسائر ما أوردناه من أمثلة الواجبات الكفائية سواء من أمور الدنيا أو من أعمال الآخرة تظل الأمة كلها مشغولة بها حتي يقوم كل واجب

الخميس، 28 أغسطس 2014

تأملات من حياة النبي سليمان في القران(4)

قال تعالى " قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
سمع سليمان عليه السلام الهدهد يدلى بحجته عن غيابه حتى النهاية ليحمل مفاجآت عديدة عن قوم لم يعلم بهم سليمان وفي أخبارهم من الغرابة ما يقتضي اتخاذ موقف حاسم حازم معهم لكن لنرى رد الفعل من سليمان عليه السلام عبر نافذة قرآنية أخرى نطل منها على تفكير الملك النبي تكون نبراسا لأمة تعد للتمكين في الأرض والاستخلاف فيها.
أولا: مع استفزاز القصة والإبداع الخطابي من الهدهد في عرضها الا أن سليمان حافظ على موضوعيته وتوازنه في تقدير الحديث فقال ان هذا كلاما يحتمل الصدق والكذب ولنتبين ولنتثبت" قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ"
لم يفعل مثل ما فعل أبوه داوود عليه السلام عندما سارع بالحكم بعد سماع احد الخصمين دون الطرف الأخر في قصة الخصمين الذين تسوروا المحراب بل قال "سننظر" وهنا يظهر نبوغ سليمان وعبقريته في فقه القضاء لقد أوتي الفهم الصحيح للقضاء في حضرة أبيه عندما كان يحكم في الغنم الذي نفشت فيه غنم القوم" ففهمناها سليمان " قد أوردت السنة شيئا من فقه سليمان في القضاء يظهر نبوغه وتفوقه فيه فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن أحدهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكما إلى داود فقضى للكبرى. فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصغرى" فعمد عليه السلام لمعرفة الأم الحقيقية بان استجاش عاطفتها فرفضت أن يقتل ابنها وآثرت أن يبقى حيا بعيدا عنها على قتله. فاستدل سليمان بهذه القرينة على أنه ابنها.
ثانيا: بالإضافة إلى  عبقريتة في القضاء فان قوله  "سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين أظهرت أيضا عبقرية ونبوغ في سياسة وإدارة الأمم و الممالك فالحكام الفاشلون هم الذين يبنون سياستهم على التلصص وتلقي الأخبار من احد أطراف الرعية على الطرف الأخر دون تحقيق أو تثبت ويأخذون الناس بالتهمة والاشتباه مما سبب كوارث لشعوبهم وأقوامهم وانتهاكا لحقوقهم وحرياتهم .
ثالثا:- شرع سليمان في التثبت من الخبر " اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
وكتاب سليمان عليه السلام كما انه للتثبت من الأخبار التي نقلها إليه الهدهد فانه أيضا تضمن مبدأ الشرعية الدستورية هذا المبدأ الذي وصلت إليه البشرية حديثا على الأقل نظريا بعد عهود من الظلم والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان وأصبحت قواعد مستقرة تعلوا على الدساتير فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وهو قبل ذلك وبعده سنة إلهية ثابتة "وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)الأعراف, "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)" الإسراء, وهو ما يوضح طبيعة النظام القانوني والدستوري لدولة سليمان إذ تقوم على مبدأ سيادة القانون ومبدأ المشروعية فلا حساب ولا عقاب قبل الإنذار والبيان فلم يكن سليمان ملكاً جباراً في الأرض يحكم بنزواته وأهوائه ويفعل ما يشاء دون ضوابط شرعية وقيم أخلاقية كما يفعل كثير من ملوك وزعماء الدنيا، إنما هو نبي.. يسمع حجة هدهد غاب عن نوبته دون إذنه، قبل أن يقضي في شأنه قضاءً نهائياً، ويرسل كتابا كريما لقوم يعبدون الشمس من دون الله يدعوهم فيها إلى الإسلام قبل التفكير بغزوهم, ومن ثم تبرز سمة النبي في الملك العادل
ولنرى في الحلقة الخامسة ماذا كان موقف الملكة من كتاب سليمان


الاثنين، 25 أغسطس 2014

تأملات من حياة النبي سليمان في القران(3)



قال تعالى"وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴿٢٠﴾ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿٢١﴾ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴿٢٢﴾ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴿٢٣﴾ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّـهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴿٢٤﴾ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّـهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴿٢٥﴾ اللَّـهُ لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿٢٦﴾ النمل .
بعد أن حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير هاهو يتفقد هؤلاء الجنود حتى إذا جاء الدور على فرقة الطير قال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ويظهر من السؤال حكمة سليمان وإحتياطه في الكلام وعدم إلقائه الاتهام جزافا وعدم تقديم سوء الظن بالرعية فعندما لم يري الهدهد ذكر كل الاحتمالات فقد يكون ذلك راجعا إليه هو بان يكون الهدهد موجودا ولكن لم يره أو غير موجود فيكون من الغائبين وفي هذه الحالة إما أن يأتي بعذر مقبول " أو ليأتيني بسلطان مبين " أو يحاسبه على هذا الغياب ولا داعي للدخول في نقاش واسع عن طبيعة الهدهد وتعريفه بال التعريف وهل هو هدهد خاص ام هدهد من جملة الهداهد إذ ان الظاهر حسب السياق العام للآيات انه جندي لسليمان من الطيور المحشورة له بأمر ربها وهو بهذا معروف لدي سليمان ومكلف بمهام محددة يتفقده كقائد له ويحاسبه ويتابعه كباقي الجنود . لكننا نريد التامل باعتبار هذه القصة نافذة للإطلال منها على عوالم تحيط بنا ولا تسمح سنة الكون بالتواصل معها مباشرة او ان نفهم لغتها ففرصة يمنحها القران الكريم لنا للإطلاع على طبيعة هذه المخلوقات عبر هذه النوافذ القرآنية فالهدهد كبقية الطير وكبقية المخلوقات خلقت لخدمة الإنسان وتؤدي وظيفة في هذا الكون لمصلحة الإنسان عموما وقد تقدم الحديث في هذا الموضوع عند حديثنا عن آدم فالله قبل ذكر خلق آدم بين انه خلق ما في السموات والأرض لأجل الإنسان " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)البقرة . وقصة ادم كما عرضها القران تبين أن ما في الكون كله من مخلوقات بما في ذلك الملائكة تعمل لصالح الإنسان إلا إبليس وذريته فهم فقط الذين يعملون لغير صالحه وفي هذه الايات وهي تعرض موقف الهدهد مع سليمان تفتح لنا نافذة نطل منها على بعض هذه المخلوقات وقد علم الله نبي من الأنبياء منطقها وأوتي فهم حديثها . حسب سياق الآيات فالهدهد من جملة الطيور التي حشرت كجنود لسليمان الا ان الواضح من الموقف الذي عرضته الآيات للهدهد هو قيامه بمهمة لم يكلفه بها سليمان وذلك واضح من الحوار في الايات فما قام به الهدهد وما تحدث به هو مبادرة منه ساقته اليها فطرته التي فطر الله عليها المخلوقات جميعا من العبودية لله والتسبيح بحمده فقد جذب انتباه الهدهد موقف شاذ وغريب لبعض البشروهو انهم يسجدون للشمس من دون الله وهو ماأطال مدة مكث الهدهد عندهم حتى يستقصي الموضوع من جميع جوانبه حتي تخلف عن طابور التمام للجند فظل مع القوم حتى احاط بكل شيء عنهم ولقد صدمه هذا الشذوذ من بعض البشر ويبدو من عرض الهدهد لديانة القوم حكمته وعقله، وفطرته النقية واستفزاز مشاعره من هذه التصرفات الشاذة لبعض البشر والمتامل في القران يجد ان هذه مشاعر وفطرة جميع المخلوقات سوى الإنسان التوحيد لله والعبودية له والتسبيح له وقدعرضت باستفاضة في ثنايا آيات القران يقول تعالى " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)"الاسراء ) ويقول تعالى " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) الحج , ويقول تعالي "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) النور .ومن هنا فالهدهد اهتم للدين الحق، وتأثربتصرفات القوم ، واستفزه سلوك منحرف من بعض البشر وعّقب على ذلك قائلا: "وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون". ثم هتف من اعماقه " الايسجدوا لله "لقد حسّن لهم الشيطان أعمالهم، وحبّب إليهم كفرهم، وصدّهم بذلك عن طريق الحق، واتبعوا طرق الغواية والضلال، فكانت النتيجة أّنهم لا يهتدون. لقد استفز الهدهد أن ينصرف بعض البشر عن عبادة الله المنعم إلى عبادة بعض مخلوقاته ان يعبد قوم الشمس ويتركوا عبادة الله الذي خلقها وصاح قائلا "ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض". وقد قرأ الكسائي " ألايسجدوا" بالتخفيف وقرأ الباقون: بالتشديد. وتوجيه قراءة التشديد: أن " ألا" عبارة عن "أن" الناصبة للفعل المضارع و"لا" النافية ادغمت النون في اللام وكتبت كما في النطق . ومعناها وزين لهم الشيطان أَن لا يسجدوا لله وتوجيه قراءة التخفيف : أن" ألا" جعلت تنبيهًا واستفتاحًا للكلام. وتعتبر الياء من يسجدوا للنداء واسجدوا فعل أمر ويكون معناها : ألا يا هؤلا أسجدوا وقراءة التشديد لا إشكال في معناها، إذ تقديرها: وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدو ا. أولأجل أن لا يسجدوا. أمّا قراءة التخفيف فكان حق الخط على هذه القراءة أن تكون هكذا: ألا يا اسجدوا ولكن الصحابة في كتابتهم للمصحف العثماني أسقطوا الألف) عن (يا) و (همزة الوصل) من (اسجدوا ووصلوا الياء بسين اسجدوا، فصارت صورة الخط ألا يسجدو ا والمنادى محذوف وتقديره: ألايا هؤلاء اسجدوا , وذلك حتى يحتمل الرسم القراءات المتواترة في الآية من التشديد والتخفيف كما هو معلوم في قواعد رسم المصحف وقد اختار الهدهد هذه الصفة لله على نحو ما يفهم ويعقل، وعلى حسب حاله من طول منقاره الذي يستخدمه في التفتيش في الأرض عما يقتات عليه ويأكل!!!.- ثم انتقل منها للحديث عن وحدانية الله في حياة الناس. "ويعلم ما تخفون وما تعلنون" قرأها حفص بالتاء على انه خطاب لسليمان ولمجلسه وقراها الباقون بالياء على انه حكاية عن ملكة سبأ وقومها فالله تعالى يعلم ما نخفي وما نعلن، وما نسّر وما نجهر. وبعد ذلك انتقل إلى تعظيم الله تعالى فذكر: "أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وهو رب العرش العظيم اعظم من عروش الملوك، فكل عرش مهما عظم فهو. دونه، -ومنه عرش بلقيس- فكان الواجب إفراده بالعبادة "الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم". وفي حديث الهدهد عن عرش الله: "تعريض بأن عظمة ملك بلقيس، وعظم عرشها ما كان حقيقًا بان يُغْرها بالإعراض عن عبادة الله تعالى. ترى كم من المقت والغضب تصبه الكائنات حولنا على سلوكنا اذا انحرف عن الصراط المستقيم؟ وكم تتأذى تلك المخلوقات التي حولنا ممن لانفهم لغتها ولا منطقها من معاصينا لله ، ترى لو قدر للعصاة والمنحرفين ان يفهموا لغة الكائنات حولهم لعرفوا كم هم منبوذون ومحتقرون من كائنات العالم كله وليس من أقرانهم من البشر فقط.؟!!! وفي الحلقة القادمة نتامل تعامل سليمان مع موقف الهدهد

الخميس، 21 أغسطس 2014

تاملات من حياة نبي الله سليمان في القران (2)


بعد ان تعرض سليمان عليه السلام للفتنة وإجتازها بنجاح "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)ص .
 وقد عرضت سورة النمل هذا الملك بتفصيل  "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ (15)  ويتذكر سليمان عليه السلام هذه النعمة ويحدث بها " وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ (16)النمل.
 ان حديث القران عن  سليمان نزل في العهد المكي فجميع المواضيع التي ذكر فيها سليمان كانت في السور المكية ماعدا موضع البقرة بشان السحرة وكان الحديث فيها عن انحرافات بني إسرائيل فلم يكن حديثا عن سليمان بقدر ما كان حديثا عن انحرافات بني إسرائيل  في اتباعهم للشياطين يعلمون الناس السحر.
وينبغي التأمل في الاستفادة من حديث القران عن  سليمان عليه السلام وما وهبه الله من ملك لم يؤته احد قبله ولابعده ونزول ذلك في القران المكي أي حالة ان كان المؤمنون  مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس لايأمن الواحد منهم على نفسه او ماله فما جدوى حكاية اخبار الملوك عليهم , فاذ علمنا ان ان  العهد المكي لم يكن للمسلمين اتصال  بأهل الكتاب علمنا  ان  القران نزل بسيرة سليمان  صافيا مصفي مجردا مما علق بهذه السيرة اليوم من روايات واساطير  وخرافات  بل حرص  النبي صلى الله عليه وسلم  عند نزول القران الا يشوش العقل المؤمن باحاديث اهل الكتاب فعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه عمر فقال : إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا ، أفترى أن نكتب بعضها ؟ فقال : أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ؟ ! لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " . رواه أحمد ، والبيهقي في كتاب ( شعب الإيمان ) .
 وقد يغلب على الظن ان متطلبات المرحلة المكية هوالحث على الصبر على الاذي والتربية على الثبات وبيان عاقبة المتقين وعاقبة المجرمين في الامم الغابرة مما تقتضيه حالة المؤمنين وقتها من الاضطهاد والاستضعاف وما يلاقوه من اذي على يد المشركين وهذا وارد في حديث القران عن  عاد وثمود وفرعون ذي الاوتاد الذين طغوا في البلاد فاكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب لكن يبقي السؤال عن جدوى الحديث عن انبياء كانوا ملوكا تمكنوا من الارض واتاهم الله من من كل اسبابها مثل الحديث عن داوود وسليمان ومثله الحديث عن ذي القرنين وكله قران مكي  وهو مايدعونا الى التامل في الاستفادة من حديث القران عن هذه الممالك  في حالات الاستضعاف والاضطهاد
لقد كان القران يتولى تربية امة ستقود العالم  كما يتولي تثبيتها على الحق فكان يغرس فيها القيم والمباديء الضروية لهذه المهمة  وهوما أحوجنا اليه اليوم فحتى لو كانت الحالة التي وصلت اليها الامة  من الضعف والهوان الا اننا على يقين ان  القران سيربي منها جيلا يرث الارض من بعد اهلها وسيكونون خلفاء الارض تلك سنة ماضية.
ان متتطلبات هذه المهمة تبدا من الآن  ومن هنا تكون الاستفادة من حديث القران عن ملك سليمان خاصة اذا جردناها من خرافات واساطير واكاذيب اهل الكتاب التي حولت الحديث في هذا المجال من حديث تربية وتكوين الى حديث التسلية وحكايات ما قبل النوم و من هذا المنطلق نستعراض الحديث عن ملك سليمان في القران .
بعد استعراض سليمان ما من الله عليه من نعمة الملك وتنوع جنوده من الجن والانس والطير  شرعت الايات في استعراض هذا الملك قال تعالى: "حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكًا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي." أنعمت علي وعلي والدي وان اعمل صالحًا ترضاهوأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين"
سار سليمان بجيشه المنوع من كافة الاطياف انس وجن وطير ، وفي طريقه مروا على واد النملوهذه اول دلالة على أنّ جيش سليمان كان يسير على الأرض، لا كما تقول الخرافات انه كان يسير على بساط الريح,ولانشغل انفسنا بما شغل به البعض عن مكان الوادي وطبيعة النملة وشكلها وجنسها واسمها فالايات تتحدث بان سليمان سار بجيشه هذا حتى إذا وصلوا وادي النمل، شاهدتهم نملة من نمال هذا الوادي، فرأت جيشًا ضخمًا عظيمًا!!! فلمّا رأت هذا الجيش ، خشيت على بنات جنسها، فصاحت فيهم محذرة منبهة، "ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم، لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون".

وقد تامل كثير من المفسرين الملامح البلاغية في حديث النملة لاداعي للخوض فيها مع اهميتها طبعا  المهم إنّ كلام النملة "يدل على حرصها على أمتها من النمل، وإشفاقها عليهم، واهتمامها بهم، وتفكيرها في تخليصهم من الخطر، وإيصالهم إلى بر لأمان،مع تبرئة سليمان وجنوده من شيء من ذلك اذا حدث منهم على سبيل الخطا " وهم لايشعرون "وهنا علم سليمان هذه القيمة قيمة الرحمة والشفقة التي اودعها في حشرة ضغيرة فإذا كانت نملة صغيرة بهذا الاهتمام بالنمالوهي حشرة زاحفة صغيرة لا تكاد ترى -فلماذا لا يكون البشرذوو العقل والإفهام-  فضلا عن الزعماء والقادةمهتمين برعيتهم ، حريصين على نصحهم، وإبعاد الخطر عنهم .هنا فهم سليمان الدرس وتبسم ضاحكا من قولها فرحا بهذا الفهم  وفرحا بنعمة ان اسمعه الله صوتها وافهمه منطقها وفرحا ايضا بنجاة النمل من جيشه فتوجه الى الله بالشكر والدعاء﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].
إنّ أصحاب المسؤوليات حَريَّ بهم أن يهتموا لما أَوكل إليهم من مهمات، وأن يعدّوها أمانات يُسألون عنها يوم القيامة، والتقصير فيها يورث غضب الرب وعذاب النار.
لقد رسم هذا المشهد للمؤمنين في مرحلة التكوين للمهام العظيمة في المستقبل  قيمة مغايرة لما عرفته  نظم السياسة من ان الممالك تستقر ببحور الدماء  ووتستقربالقمع وانتهاك الحق في الحياة الان يربيهم القران على ان الممالك الحقيقية هي التي تقوم على الرحمة  والشفقة بالرعية فتلك نظام الممالك في عالم الحشرات فكيف بعالم الانسان.